مع اقتراب الشمس من الغروب فوق جدران الطين في حي الطريف، المهد التاريخي للدولة السعودية، تنعكس أشعة الضوء بلون ذهبي ناعم. واليوم يحمل هذا اللون اسم خاص: "درعية تان". ففي مبادرة فريدة، تعاونت شركة الدرعية مع شركة بانتون (Pantone) العالمية، لاستخلاص جوهر العمارة النجدية المصنوعة من اللبِن والطين، وتقديمه في شكل لون رسمي مخصص .هذا المشروع لا يقتصر على كونه مشروعاً تسويقياً فحسب؛ بل بات رمزاً ثقافياً حياً. فالألوان لطالما حملت في طياتها الكثير من الدلالات والإشارات، من الأخضر الذي يميز علَم المملكة إلى الألوان المميزة للشركات العالمية. أما "درعية تان"، تحديدًا، فهو ينقل جوهر تراث السعودية وأحلامها المعاصرة، مستعينًا بلغة عالمية لا تحتاج للكلمات كي تشرح نفسها.
منذ لحظة الإعلان عنه في أبريل 2025، بدا من الواضح أن "درعية تان" أكثر من مجرد لون جديد في قائمة بانتون، بل جزء مهم من مبادرة "أرض ترويك" ذلك المشروع الطموح لإعادة إحياء الدرعية التاريخية بوصفها وجهة عالمية رائدة. يتجسد في هذا اللون تجاذب حقيقي بين الملموس (الطوب والحجر والطين) وغير الملموس (روح المكان وسردياته وقيمه). فحين نستلهم لونًا من قلب تاريخ المكان، نكون قد أرسينا جسرًا بين الماضي الذي بناه الأجداد، والحاضر الذي يطمح إلى مستقبل أكثر إشراقًا.
جوهر درعية تان
لم يأتِ "درعية تان" محض صدفة، بل نبع من قلب الأرض النجدية. فبدلًا من ابتكار درجة عشوائية من البيج، جرى استقاء اللون ميدانيًّا من خليط المواد الطينية التقليدية التي استخدمها البناؤون قديمًا في عمارة الدرعية. إنه اللون ذاته الذي تراه عين الزائر حين يسير تحت أشعة شمس العصر في حي الطريف، متأملا الجدران الطينية وهي تكتسي بمعالم تاريخ زاخر. وقد وصفه الرئيس التنفيذي لشركة درعية، جيري إنزريلّو، بأنه "يحمل روح الدرعية"، متوقعًا أن يصير رمزًا ثابتًا في فكر الناس ومشاعرهم.
كما أن هذا اللون يوثق ما صنعته أيدي أجدادنا حين شيدوا المساكن والمساجد من مواد محلية بسيطة كالطين والقش. ويجسد "درعية تان" مفهوم "التراث الحيّ": فبدل أن يبقى التاريخ حبيس المتاحف، يتجسد في تفاصيل الحياة الحديثة بوصفه لغة تخاطب زوار الدرعية وسكانها. إنه صورة تقول لكل من يشاهده: ماضينا لم يختفِ في كتاب التاريخ؛ بل يقف أمامكم، حيًّا ومتجددًا، ومتاحًا لاكتشافه أو حتى ارتدائه إن وددتم (في الأزياء أو الديكور).
الشراكات الاستراتيجية في استخدام الألوان بعالم العلامة التجارية
يندرج "درعية تان" في إطار الشراكات الاستراتيجية مع بانتون، حيث تسعى جهات مختلفة لتخصيص لون لا يُشبه سواه، فيصبح هوية بصرية تُعرَف بمجرّد النظرة الأولى. هذا النهج اتبعته علامات تجارية كبرى منذ سنوات، إذ نجحت بعض الألوان في أن تصبح اختزالاً شاملاً للاسم والمكانة. وهذه بعض الأمثلة الشهيرة عالميًا:
Tiffany Blue

تبنت دار المجوهرات الأمريكية تيفاني لون "Tiffany Blue" لونٌ بات مرادفًا للرقي والترف، حتى أن رؤيته تكفي لتُعرف العلامة دون أن يُذكر اسمها. لقد أضاءت به الشركة مبنى "إمباير ستيت" كاملًا ضمن حملة دعائية، وسجّلته كعلامة تجارية رسمية بالتعاون مع شركة بانتون في عام 1998، ليصبح أحد أقوى الأمثلة على كيف يمكن للون أن يتحول إلى أصل رمزي وتسويقي بالغ القيمة.
UP Blue

ولعل من الأمثلة الحديثة التي تؤكد قدرة اللون على اختصار هوية كاملة، ما فعلته شركة الطيران الخاصة "Wheels Up" حين أطلقت لونها الخاص "UP Blue". لم تكن بحاجة إلى شعار معقّد أو هوية بصرية متعددة، فقط ظلّ أزرق مميز بات يُستخدم في جميع طائراتها ومحتواها التسويقي.
إثراء السياحة وتعزيز الارتباط الثقافي
إن قوة "درعية تان" لن تُختبر في المعارض الفنية وحدها، بل في كيفية ظهوره على أرض الواقع مع تدفّق السيّاح. ووفق المؤشرات الأولية، يبدو أن اللون سيتغلغل في تفاصيل التجربة السياحية في الدرعية. فعندما يصل الزائر، قد يجد لوحة الاستقبال والتوجيه وقد صُمّمت بهيئة هذا اللون، ليبعث إحساسًا بالانسجام مع الجدران الطينية في الطريف. ولعل الخرائط والكتيّبات المطبوعة التي تُوزّع عند مداخل المعالم ستتضمن ظلالًا من ذات اللون، توحي للزائر منذ البداية بأنه يخوض تجربةً متكاملة في أرض التاريخ. هذه الخطوات المتقنة في توحيد اللون تخلق سردية مكانية عميقة. إذ لا يشعر الزائر بالتشتت بين تصميم قديم وآخر حديث؛ بل يرى سلاسة في الانتقال بين الحاضر والماضي، كأنّهما ضفتان لنهر واحد.
وحتى نفهم كيف يمكن للون أن يؤثر على تجربة الزائر ويعزز مكانة المنطقة كوجهة سياحية، بإمكاننا النظر للحالات التالية:
Santorini White

في جزيرة سانتوريني اليونانية، مثّل اللون الأبيض أكثر من مجرد دهان؛ كان في بدايته حلاً عمليًا لتبريد البيوت ثم أصبح قانونًا يعكس الهوية الوطنية. اليوم، أصبحت البيوت البيضاء ذات القباب الزرقاء رمزًا بصريًا لليونان، وتستقبل سانتوريني سنويًا أكثر من 2.5 مليون سائح، أي أكثر من مئة ضعف عدد سكانها، في مشهد يؤكد أن اللون الواحد قادر على أن يصنع تجربة لا تُنسى.
Jaipur Pink

وفي الهند، تحول لون وردي إلى تقليد مستمر منذ 1876، حين طُليت مدينة جايبور بالكامل لاستقبال أمير ويلز (لاحقًا الملك إدوارد السابع). اللون، الذي اختير لرمزيته في ثقافة راجستان كرمز للترحاب، تحوّل إلى بصمة بصرية لا تنفك عن المدينة، حتى باتت تُعرف عالميًا باسم "المدينة الوردية". وقد ساهم هذا التميّز في إدراج جايبور ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو عام 2019، وفي تعزيز مكانتها السياحية ضمن ما يُعرف بالمثلث الذهبي للهند، حيث تستقبل ملايين الزوار سنويًا.
Marrakech Red

مراكش، المدينة الحمراء، مثالٌ آخر على كيف ينسج اللون هوية مدينة بأكملها. فمنذ قرون، استخدمت في عمرانها الطين الغني بأكسيد الحديد، فصبغ جدرانها وأزقتها بلونٍ وردي مائل للقرميدي. لم يكن اللون اختيارًا جماليًا فقط، بل ظل حتى اليوم يُفرض كجزء من قوانين البناء في المدينة القديمة، حفاظًا على وحدة المشهد المعماري. وقد شكّل هذا اللون أحد أبرز عناصر الجذب البصري للسياح، مما ساهم في تعزيز مكانة مراكش كواحدة من أكثر وجهات المغرب شعبية. ففي عام 2024 وحده، استقبلت المدينة ما يقارب أربعة ملايين زائر، رقم قياسي يعكس نجاحها في تحويل لون الطين إلى عنصر من عناصر الجذب السياحي.
Chefchaouen Blue

وفي شفشاون المغربية كذلك، حيث تلتقي الجبال الزرقاء بالجدران المطلية بالفيروزي، أصبح اللون هو الحكاية بأكملها. لُقّبت المدينة بـ"الجوهرة الزرقاء"، وباتت مقصد سياحي عالمي مدفوع بقوة الصورة. في السنوات الأخيرة، تصدّرت شفشاون قوائم المدن الأكثر جذبًا على إنستغرام، وارتفع عدد زوارها بشكل غير مسبوق، لتنتعش بذلك تجارة البيوت التقليدية، والمقاهي، والحرف اليدوية. لم يكن ثمة شعار أو إعلان ضخم؛ كان كل ما في الأمر ظلًا من الأزرق يروي حكاية المكان بهدوء وعمق.
إذًا، تعاون الدرعية مع بانتون يعني تثبيت لوناً رسمياً يمثل هويتها كوجهة سياحية عريقة، ويمنحها ميزة يصعب على الآخرين استنساخها. إنها خطوة وسط منافسة عالمية على جذب السياح، تكفل للدرعية لوناً لا يُضاهى يتغلغل في الذاكرة. وقد تفسح هذه الخطوة الطريق لتكرار الفكرة في أماكن أخرى في السعودية مثل البلد في جدة التاريخية أو العلا. وربما تُسجَّل حقوق "درعية تان" وتُحمى، فيتحول هذا اللون المستمد من التراث النجدي إلى أصل ثقافي وتسويقي يرفع قيمة الدرعية في عيون الزوار والمستثمرين.
تأثيره على الاتجاهات التصميمية والتسويقية
قد لا يقتصر تأثير "درعية تان" على نطاق الدرعية أو حتى حدود المملكة؛ إذ من المتوقع أن يلامس اتجاهات التصميم والتسويق التي باتت تميل نحو الألوان الطبيعية والأرضية. فخلال الأعوام الأخيرة، انتشرت موجة عالمية في عالم التصميم الداخلي والموضة تعتمد على الألوان الترابية، كالبني والطوبي والأخضر الزيتي. وقد يعود السبب لرغبة في التعبير عن قيم الاستدامة والعودة لجذور الطبيعة. في هذا السياق، يبدو "درعية تان" متوافقًا مع روح العصر، فهو لون يحاكي الأرض ويذكر بالبساطة الأصيلة.
تتجلى أيضًا إمكانية تأثير اللون على قطاعات كالأزياء والديكور. هل يمكن أن نرى دور أزياء محلية أو حتى عالمية تستلهم "درعية تان" في مجموعات موسم الخريف أو الشتاء؟ قد يحدث ذلك، خاصةً مع تزايد قيمة "السرد القصصي" في المنتجات. فالمستهلك اليوم لا يطلب قماشًا جميلًا فحسب، بل يبحث عن حكاية أو هوية متوارية خلفه. وإذا كانت تلك الحكاية ترمز إلى عراقة تاريخية وتراث بشري، تزداد جاذبيتها.
على صعيد المنتجات والهدايا التذكارية، قد تحلّ القمصان والأكواب والأوشحة المصبوغة بـ"درعية تان" مكان الهدايا العامة. فحين يحمل السائح أو المواطن هذه الأغراض إلى بلده أو يقتنيها في بيته، ترافقه جزء من حكاية الدرعية وتاريخها الطويل. وبذلك، يصبح اللون ذاته سفير يعبر الحدود، تاركًا انطباعًا ثقافيًا واستفهامًا إيجابيًا: لماذا هذا اللون بالتحديد؟ وما قصته؟ فيأتي الجواب ليحكي حكاية 300 عام.
وفيما يتعلق ببانتون، أطلقت الشركة مؤخرًا ألوانًا هادئة مثل "Peach Fuzz" لعام 2024، في إشارة إلى توجه عام نحو الدفء والمرونة. ويبدو أن "درعية تان" ينسجم مع هذه الموجة، كونه لونًا محايدًا معتدلًا. قد يجد له مكانًا في قوائم الترشيحات التي تصدرها بانتون سنويًا لاقتراح اتجاهات الألوان في شتى المجالات. وبهذا، يشكل "درعية تان" نقطة التقاء بين تيارين: التوجه العالمي نحو استلهام الطبيعة، والتوجه السعودي نحو إحياء العناصر الثقافية بروح عصرية.
آفاق مستقبلية للعلامة التجارية
"درعية تان" قد يفتح الباب أمام عائلة ألوان بأكملها مستوحاة من مناطق أخرى وثقافات مختلفة في المملكة. فبحسب تصريحات كيران هاسلام (المدير التسويقي لشركة درعية)، ما يزال هناك مجال واسع لاستكشاف تدرّجات أخرى، من خضرة وادي حنيفة إلى ألوان الذهب النجدي.
"أخضر وادي حنيفة"
تشتهر واحة وادي حنيفة بكونها مكانًا تتدفق فيه المياه وتجتمع فيه النخيل بكثافة. فكيف سيكون مظهر لون أخضر مستوحى من هذه الطبيعة؟ قد يكون لونًا يبعث على الحيوية، يذكّر بالنباتات الصحراوية والماء المتدفق بلطف في الوادي. كما يمكن لهذا اللون أن يضاف إلى عناصر المرافق السياحية المرتبطة بالطبيعة، ليعزز جانبًا بيئيًّا متكاملًا مع "درعية تان".
"الذهب النجدي"
من جهة أخرى، يمثل الذهب النجدي التزيينات التي اشتهرت بها العمارة النجدية في النقوش والأبواب، إضافةً إلى أدوات الضيافة التي تظهر باللون الذهبي. تصوروا لونًا يتلألأ برمزية الحِرف اليدوية ودفء الضيافة العربية. قد يزين هذا اللون أجزاءً من المتاحف أو صالات العرض التي تهدف لإبراز الإرث الفني السعودي، فيتناسق مع "درعية تان" و"أخضر وادي حنيفة" وغيرها من الألوان التي قد تظهر يومًا.
عبر مثل هذه الخطط، يمكن للمملكة أن ترسخ سردية متعددة الألوان، لكل منها سياق وهدف وتراث. ولعل هذه المجموعة الكاملة تشكل "لوحة ألوان السعودية"، تُوظف تدريجيًا في المشاريع والمبادرات القادمة. هكذا ستتوحد الرسالة البصرية، لينجذب السياح والمستثمرون على حدّ سواء إلى مكونات الهوية البصرية التي تتحدث بلغة الأرض والإنسان.
خلاصة القول،
ثمة سحرٌ في التفاصيل قد تفوق قوته أقوى الحملات الإعلانية، إذا استطعنا تحويله إلى رمز بصري أو ثقافي. إن قصة "درعية تان" تتجاوز كونه لونًا أضيف إلى قوائم بانتون؛ إنها تمثل جسرًا يربط إرث السعودية بأدوات المستقبل. لقد استُلهم من طين حي الطريف، لكنه يطفو في فضاء العلامات التجارية والإعلام المعاصر بوصفه رمزًا حيًا على أن تاريخنا قابل للانصهار في حاضرنا دون أن يفقد نكهته الأصيلة.
وقد تكون من أجمل ثمار هذه المبادرة أنها خلقت مجالًا لمزيد من الأفكار. هل ستتبنى مدن سعودية أخرى ألوانًا معتمدة تعبّر عن طابعها؟ هل ستتعاون مناطق مثل العُلا أو جدة التاريخية مع بانتون لاستخلاص لون يرتبط بأحجارها ومبانيها؟ الأسئلة تزداد، والإجابات تولد من التجارب القادمة. رحلة الألوان في السعودية بدأت للتو، و"درعية تان" ومضة من فصول لم تُكتب بعد.